تكميم الأفواه الفلسطينية في أمريكا- قمع ممنهج ومقاومة متصاعدة

على مدار الأشهر التسعة الماضية، انخرطت السلطات الأمريكية، على المستويين الوطني والمحلي، في حملة قمعية شرسة ضد النشاط المؤيد للفلسطينيين، ساعية إلى تجريم أي شكل من أشكال التعبير عن الهوية الفلسطينية. وقد طالت هذه الحملة القمعية جوانب عديدة من الحياة، بدءًا من السياسة والأعمال، ووصولًا إلى المجتمع المدني، والتعليم العالي، ومختلف ألوان الثقافة.
تجسدت هذه الحملة في مظاهر متعددة، منها تفريق الاحتجاجات السلمية بوحشية من قبل قوات الأمن، وتوجيه اتهامات لا أساس لها بمعاداة السامية إلى المتظاهرين السلميين. بل وصل الأمر إلى حد اعتبار ارتداء الكوفية الفلسطينية واستخدام مصطلح "الانتفاضة" – في سخرية مؤلمة – بمثابة إشارة إلى الرغبة في "محو إسرائيل من الوجود".
يهدف هذا المسعى المستميت إلى طمس الهوية الفلسطينية إلى محو الفلسطينيين من ذاكرة التاريخ، وهو ما يعكس رغبة إسرائيل وحلفائها الأمريكيين. في المقابل، يواجه الفلسطينيون هذه الهجمة العنصرية الأمريكية الإسرائيلية، ويطرحون في الوقت نفسه نقاشًا جادًا وعميقًا حول الجذور التاريخية والفلسفة الاستعمارية الاستيطانية لإسرائيل والحركة الصهيونية التي أفرزتها. إن إسرائيل والصهيونية باتتا تواجهان تحديًا وجوديًا أمام هذا التدقيق المنهجي والمتفحص في أسسهما وممارساتهما.
من بين أبرز محاولات إسكات الصوت الفلسطيني، تبرز قضية ربيع إغبارية، المحامي الفلسطيني والباحث القانوني المتميز. في خطوة غير مسبوقة في نوفمبر/تشرين الثاني، عمدت مجلة هارفارد لو ريفيو (Harvard Law Review) إلى حجب مقال كان قد كُلف به إغبارية، والذي قدم فيه النكبة كإطار قانوني لفهم القضية الفلسطينية. اللافت أن هذا المقال قد أزيل بعد أن اجتاز بنجاح جميع مراحل التحرير والتدقيق والموافقة من قبل هيئة تحرير المجلة المرموقة.
لكن المحاولات لم تتوقف عند هذا الحد، فبعد هذه الحادثة، تواصل محررو مجلة كولومبيا لو ريفيو (Columbia Law Review) مع إغبارية، وكلفوه بكتابة مقال جديد حول فلسطين. وبعد خمسة أشهر من الجهد المضني والعمل الدؤوب والتحرير المكثف، نشرت المجلة المقال بعنوان "نحو النكبة كمفهوم قانوني". ومع ذلك، لم تتأخر ردود الفعل الغاضبة والعنيفة، إذ أُغلق الموقع الإلكتروني للمجلة بشكل مفاجئ، وتعرض المحررون لضغوط هائلة لحذف النص، بل وصل الأمر إلى حد التهديد بوقف جميع أعمال المجلة بشكل كامل.
إن مصير كتابات إغبارية في اثنتين من أعرق المجلات القانونية في الولايات المتحدة، يجسد بشكل صارخ الصراع المحتدم بين أولئك الذين يسعون إلى ترسيخ الرواية الإسرائيلية المهيمنة، وأولئك الذين يصرون بعناد على إسماع صوت الحقيقة الفلسطينية للعالم أجمع.
عندما سُئل إغبارية عن جوهر قضيته، تحدث بعمق وإسهاب عن الأبعاد الاستعمارية لنشأة إسرائيل، وعن النكبة، وعن النضال المستمر والمتواصل من أجل الحقوق الفلسطينية المشروعة، قائلًا: "إن محو وطمس الوجود الفلسطيني ليس مجرد حدث عابر أو عرضي، بل هو واقع بنيوي ومادي لا يمكن تجاهله. إنه مسلسل مستمر منذ النكبة، ويتجلى في تهجيرنا وطردنا واستبدالنا بشكل ممنهج. ويمتد هذا المحو ليشمل تكميم أفواه الفلسطينيين في الولايات المتحدة والغرب، واستبعاد أي رأي مخالف أو معارض. إن مقالتي تسعى إلى تفكيك الهياكل القانونية المنبثقة عن النكبة، والتي تنظر إلى الفلسطينيين كفئات متفرقة يتم إخضاعها بشكل منفصل وقسري".
وأضاف إغبارية بنبرة يملؤها الأمل والتفاؤل: "إن محاولات الرقابة والقمع تُواجَه بموجة متصاعدة من الاحتجاجات والمقاومة الشرسة. فالقضايا القانونية، والاحتجاجات الشعبية العارمة، وغيرها من الإجراءات المتخذة لحماية الفلسطينيين في وجه المذبحة غير المسبوقة التي نشهدها، هي جزء لا يتجزأ من الحركة المتنامية للدفاع عن حقوقنا غير القابلة للتصرف. إن الناس باتوا يدركون، بشكل متزايد، زيف الدعاية المضللة والمضادة. لقد كشف النضال الفلسطيني عن التسلسل الهرمي الاستعماري العالمي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تجذر بعمق في النظام القانوني العالمي".
ويشير عبد الله فياض، الذي انتقل مؤخرًا من هيئة تحرير صحيفة بوسطن غلوب (Boston Globe) إلى فوكس (Vox) كمراسل سياسي، إلى أن الأدوات المتعددة والمتنوعة المستخدمة لتكميم أفواه الفلسطينيين في الولايات المتحدة وخارجها يجب أن توصف بمصطلحها الحقيقي والصريح: "العنصرية المناهضة للفلسطينيين".
ويضيف فياض: "إنها، شأنها شأن كافة أشكال العنصرية المقيتة، تستغل قوة المؤسسات والدولة ضد الأفراد والجماعات، بهدف قمع التعبير الفلسطيني عن هويتهم وحقوقهم الأصيلة. بيد أن هذه الكراهية الموجهة ضد الفلسطينيين وحلفائهم الأوفياء محكوم عليها بالزوال في نهاية المطاف. فالرأي العام بدأ يستشف الحقيقة تدريجيًا، في الوقت الذي يواصل فيه الفلسطينيون وأنصارهم مقاومة الاتهامات الباطلة والمغرضة التي توجه إليهم".
أبرز فياض في مقال نُشر حديثًا أن هذه الظاهرة المقيتة قد سبقت الحرب الأخيرة على غزة بزمن طويل، إذ واجه الفلسطينيون ومناصروهم في شتى أنحاء العالم على مدى عقود متتالية عواقب وخيمة ومؤلمة لتأييدهم القضية الفلسطينية العادلة، ومن ذلك الانتقام في مواطن العمل، والمراقبة الحكومية الصارمة، وجرائم الكراهية البغيضة التي لا تغتفر.
وتتجلى صور العنصرية المؤسسية المناهضة للفلسطينيين في حالات عديدة، منها مراقبة الحكومات للفلسطينيين والمنظمات المؤيدة لهم، وكذلك المؤسسات كالجامعات التي تقمع بوحشية الاحتجاجات المناصرة للفلسطينيين في الآونة الأخيرة، بما في ذلك منع المتحدثين من إلقاء كلماتهم في حفلات تخرج الطلاب.
أما الأستاذ في كلية بروكلين، مصطفى بيومي، فيرى أن للمشاعر المعادية للفلسطينيين تأثيرًا يتجاوز بكثير حدود المجتمع الفلسطيني والقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة. وقد كتب في مقال نُشر مؤخرًا في صحيفة الغارديان (The Guardian) أن معاداة الفلسطينيين كانت تغذي كراهية الإسلام المؤسسية في الولايات المتحدة لعقود طويلة، حيث بذلت السلطات الأميركية جهودًا حثيثة في مراقبة وقمع أي تنظيمٍ عربي أميركي مؤيد للفلسطينيين منذ عام 1967.
إن حملة القمع الراهنة ضد الأصوات والنشاط المؤيدَين للفلسطينيين ما هي إلا تتويجٌ لتلك الجهود التاريخية المتواصلة. ومن المثير للدهشة أن يكون دور الولايات المتحدة في هذا الصدد انعكاسًا دقيقًا لما شهده العالم قبل قرن من الزمان، حين انحازت القوة الإمبراطورية آنذاك، بريطانيا العظمى، إلى الحركة الصهيونية وساعدتها في السيطرة على فلسطين بأكملها، مما أدى إلى تغييب أغلبيتها العربية الفلسطينية الأصيلة.
ففي عام 1917، أصدرت الحكومة البريطانية وعد بلفور المشؤوم الذي تعهد بدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، التي كان 93% من سكانها آنذاك من العرب الفلسطينيين. وفي عام 1920، منحت عصبة الأمم بريطانيا الانتداب على فلسطين، مما أتاح لها، إلى حد كبير، تشكيل المجتمع وفق أهوائها وتجاهل حقوق ومصالح الأغلبية الفلسطينية الساحقة.
ويبدو أن الولايات المتحدة تسير اليوم على خُطى بريطانيا بالأمس، فباعتبارها القوة الإمبريالية الرائدة في الغرب، فإنها تتجاهل الحقوق الفلسطينية المشروعة، وتدعم سياسات الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، بل وتحميها في المحافل الدبلوماسية الدولية، وتتواطأ معها لتجريم وإسكات الأصوات الفلسطينية الحرة التي تنادي بالحق والعدل.
بيد أنه مثلما واجه الدعم الإمبريالي البريطاني للصهيونية مقاومةً عنيدة في القرن الماضي، كذلك يواجه الدعم الأميركي اليوم مقاومةً غير مسبوقة من قِبَل الفلسطينيين وحلفائهم الأميركيين والعالميين. ويشمل ذلك الاحتجاجات العامة العارمة، والمقالات الإعلامية والأكاديمية القيمة التي يسطرها علماء مرموقون، والتحديات القانونية على الصعيدين الوطني والدولي، وتحالفات التضامن الوثيقة مع الفئات المهمشة في المجتمع الأميركي، بمن في ذلك السود، واللاتينيون، واليهود التقدميون، والسكان الأصليون، والطلاب، وغيرهم من شرائح المجتمع الواعية.
إن هذه التعبئة واسعة النطاق في الولايات المتحدة ضد العنصرية والقمع المناهض للفلسطينيين تُعد الآن واحدة من المحركات الرئيسية للحركة العالمية للتضامن مع فلسطين وشعبها المكلوم.
وكما كتب بيومي بحكمة: "من الأهمية بمكان أن الشباب الأميركيين المسلمين واليهود الذين يتصدرون الحركات الاحتجاجية اليوم يُعيدون الحقوق الفلسطينية إلى صلب النضال من أجل دحر الإسلاموفوبيا. لماذا؟ … من أجل الحرية المنشودة. يدرك هؤلاء الشباب الواعون أن تحرير الولايات المتحدة من تحيزاتها المعادية للمسلمين واليهود يتطلب حتمًا تحرير الشعب الفلسطيني من نير الاضطهاد الجاثم على صدره. وهذا ليس موقفًا ظرفيًا فحسب، بل إنه درسٌ عميق في كيفية التغلب على القمع والظلم في شتّى أرجاء المعمورة".
